قد صدق الإمام السيوطي رحمه الله . . حين ألف كتاباً سمّاه ( تفضيل الكلاب . . على كثير ممن لبس الثياب ) . . قاصداً بذلك بيان خصلة حفظ الود والعشرة والإحسان . . وعدم نكران الجميل والنسيان . . وذلك بعدما حسده الحاسدون . . وأرهقه خبث الماكرون . . فاعتزل الناس في روضة المقياس كاتباً . . معتزلا لأكثر من عشرين عاماً . . ألف فيها زهاء ستمائة جزء وكتاب . . وإذا نظر الإنسان في بعض الفترات من عمره إلى تكالب الناس على الدنيا . . واقتتالهم على المال والمنصب . . علم أن في الخلوة سلوة . . وفي البعد نجاة.
وأحسن الشافعي إذ قال:
وإن تسأل عن الدنـيا فإني طعمتها .:. .:. وسـيق إلينا عذبها وعذابها
فما هي إلا جيفة مستحيلة عليـها .:. .:. كـــلابٌ همهــن اجتــذابـــها
فـإنْ تجنبـتهـا كنـت سلمـاً لأهلـهـا .:. .:. وإن تجتذبها نازعتك كلابها
لذا ذهب سفيان الثوري . . وإبراهيم بن أدهم وداود الطائي والفضيل بن عياض وبشر الحافي . . إلى أن العزلة خير من الخلطة. . لحديث الصحيحين وفيه قيل يا رسول الله أي الناس خير . . قال: ( رجل يجاهد بنفسه وماله . . ورجل في شعب من الشعاب . . يعبد ربه ويدع الناس من شره ).
ولحديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله ما النجاة . . قال: ( أملك عليك لسانك . . وليسعك بيتك . . وابك على خطيئتك ) . . قال أبو الدرداء: ( نعم صومعة المرء المسلم بيته . . يكف لسانه وفرجه وبصره . . وإياكم ومجالس الأسواق . . فإنها تلهي وتلغي ) . . وفي الخلطة أمراض مثل الغيبة . . فإن عادة الناس التمضمض والتفكه بالأعراض . . فإن وافقتهم أثمت . . وإن سكتّ كنت شريكاً . . وإن أنكرت أبغضوك.
وفي الخلوة بعد عن الرياء . . الذي هو مرض الدعاة والعلماء والمنفقين والمحسنين . . لأن النفس تتشوق إلى الثناء عليها وتطلب المدحة . . وفي الخلوة بعد عن الأخلاق الرديئة والعادات الرذيلة . . التي ربما سرقها من طبائع الناس . . ونحن نرى ذلك في أبنائنا وبناتنا . . كم يتأثرون بمدارسهم وأسواقهم ومجتمعاتهم . . مع الحرص على إصلاحهم هذا في بلاد المسلمين . . فكيف بمن يعيش بعيداً نائيا عن بلاد الإسلام . . إنهم كالأيتام على موائد اللئام . . ففي مجالسة الفساق مدّة من الزمن دون إنكار . . تطبّع بطبائعهم . .لأن الفساد يصير بكثرة المشاهدة والمخالطة هيناً على النفس.
وفي الخلوة الخلاص من الفتن . . والخصومات . . وصيانة الدين عن الخوض فيما لا فائدة فيه . . بل قد يفضي إلى العصبية والبغضاء والحسد . . قال أبو مهلهل أخذ بيدي سفيان الثوري وأخرجني إلى الجبانة فاعتزلنا ناحية فبكى ثم قال : ( يا مهلهل إن استطعت أن لا تخالط في زمانك أحداً فافعل . . وليكن همّك مرّمة جهازك . . أي إصلاح ما فسد من أمرك ).
وذهب بعض السلف إلى أن الخلطة أفضل لحديث: ( المؤمن الذي يخالط الناس و يصبر على آذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ) وهو قول سعيد بن المسبب وشريح القاضي والشعبي وابن المبارك وعمل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام .
والحق أن من رأى أن في خلطته فتنة له في دينه ونفسه وعياله . . فسلوته في البعد عن الناس . . والتقليل من الخلطة . . ومن رأى أن له قدرة على التأثير في الناس ونصحهم وأمرهم ونهيهم وإرشادهم ودعوتهم كالعلماء والدعاة والمصلحين . . فإن مخالطته أولى وأوجب لحديث ( المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على آذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ) . . لكن يحتاج الدعاة والعلماء والمصلحين فترة راحة وخلوة وهي ما تسمى باستراحة المحارب . . فيها يتفرغ للعبادة والاستئناس لمناجاة الله سبحانه . . وذلك لا يكون إلا بالخلوة و فيها يكون الإنس بالله تعالى .
وبالخلوة يتخلص الإنسان من المعاصي . . التي يتعرض لها بالخلطة غالبا . . وتجر عليك كدرا وحزناً وهماً وغماً . . يقعدك عن العمل للدين أو الدنيا . . ويقلق عليك راحتك ويسد عليك مناسم الفكر وشعاع البصيرة . . لذا قال عمر رضي الله عنه . . في العزلة راحة من خلطاء السوء .
وفي الخلوة قطع لأطماع الناس فيك . . وقطع لأطماعك فيما بأيديهم . . فإن رضا الناس غاية لا تدرك . . وإن انقطعت عما في أيديهم ورضيت بقسمة الله لك . . لم تحرك بك الدنيا ولا زهرتها شيئاً . . ولم تهتم للجري وراءها . . وستدخر قوتك وجهدك للآخرة .
كما أن في الخلوة الخلاص من مشاهدة الحمقى . . والثقلاء والبطالين . . فإن الإنسان إن خالط هؤلاء لم يلبث أن ينقد أخلاقهم . . وربما وقع في الغيبة . . وقد وقفت على بعض الآثار الإسرائيلية في كتاب الدر المنثور للسيوطي من أن أنبياء بني إسرائيل . . كانوا إذا كُذبوا ولم يلقوا قبولاً اعتزلوا الناس . . وجاور بمكة إلى أن يأتيهم الأجل وما الاعتكاف الرمضاني إلا نموذج للخلوة .
لذا نصح الدعاة والمخلصين والعلماء . . أن تكون لهم خلوة في قاموس حياتهم . . بها يزدادوا علماً وحلماً . . وقرباً وأنساًَ بالله تعالى . . وقد اعتزل النبي صلى الله عليه وسلم في مشربة . . أي غرفة له شهراً كاملاً. . بعد أن ألا من نسائه . . واعتكف كل عام عشرة أيام.
فجرِّب الخلوة بين المغرب والعشاء . . أو أيام فراغك . . أو بالإعتكاف . . فإن في الخلوة سلوه